تطرح الاحتجاجات الشعبية التي تندلع بين الحين والآخر جملة من التساؤلات عن طبيعة واهداف هذه الاحتجاجات ومكوناتها الاجتماعية وطبيعتها السياسية والمطلبية، فبعد مرور أكثر من أربعة عقود على انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتأسيس النظام السياسي القائم على أسس الحكومة الدينية وولاية الفقيه، تبرز يوم بعد يوم إشكاليات كثيرة ناجمة عن الفهم الشعبي لاسيما الشبابي للنظام السياسي وإدارة الدولة إضافة الى مسائل الحقوق والحريات العامة.

هذا الأسبوع كشفت الاحتجاجات الشعبية بعد وفاة الفتاة (مهسا اميني) بعد توقيفها من قبل ما يسمى بشرطة الاخلاق المعنية بمراقبة ومحاسبة قواعد اللباس والزي والحجاب لدى النساء في إيران، كشفت مرة أخرى الى ان هناك صراع واضح بين ما يريده الشباب والجيل الجديد من جانب الذي ولد بعد الثورة الإسلامية ولديه تطلعات قد تكون مختلفة عن جيل الثورة وما قبلها من الدعاة ورجال السلطة والحكم والإدارة ومن قوات ثورية وحزبية، وجماعات الضغط الموالية للنظام السياسي الحكم في إيران من جانب ثاني. الى جانب ذلك تبرز قيم الصراع ما بين الشباب المتطلع الى الحداثة بمختلف مجالاتها الاجتماعية والفنية والحقوقية والسياسية والاقتصادية، وما بين مبادئ تتمسك به قوى الثورة الإسلامية ومؤسساتها ونظامها السياسي.

وفي ذلك تشير الكتابات الصادرة من الجيل الشبابي الصاعد في إيران من ان الوضع بات واضحا في تصادم الأرادات والافكار وأنَّ الناس هناك معرَّضون منذ أكثر من أربعة عقود لخطر التعذيب والسجن والموت لأسباب تافهة، وهذه الفجوة بين عنف الأحداث ونقص العناوين في وسائل الإعلام تلقي بثقلها الكبير على الناس في إيران، وخاصة على النساء، حيث تُعَدُّ معاداة النساء ركنا أساسيا من أركان النظام السياسي في إيران. ويبدو أنَّ أصحاب السلطة يخافون من النساء أكثر من خوفهم من خصومهم الإيديولوجيين، فيما تشير كاتبة وفنانة إيرانية ثانية الى ان وصل بها الأمر إلى المثول أمام المحكمة بسبب أحد أعمالها. كانت التُّهمة المُوجَّهة لها هي (الزندقة)، وفي حين تشير الواقع الى أنّ السبب الحقيقي وراء محاكمتها هو نشاطها السياسي، وصدر حكم القضاء حينها أن أخضعت للمراقبة الرسمية لمدة خمس سنوات.

واذا اردنا معرفة طبيعة التعامل مع هذا الصراع علينا ان نعرف ان في أيران تيارين بارزين: احدهما التيار المحافظ، والثاني التيار الإصلاحي، الأول كتيار سياسي غالبا ما يكون متسيدا على السلطة بحكم مقربته من المرشد الأعلى في ايران، يدعو هذا التيار الى الالتزام الحرفي بمبادئ وقيم الثورة الإسلامية في مختلف المجالات، وغالبا ما يكون متصادمة مع الشباب وسببا في نشوب الاحتجاجات، وتصادم مع الحقوق والحريات الشخصية، وهذا ما ظهر فعليا مع الحركة الخضراء اثناء فوز الرئيس احمدي نجاد بالولاية الثانية من رئاسة الجمهورية الإسلامية في ايران، وكذلك الان مع حكم الرئيس إبراهيم رئيسي الرئيس المقرب من التيار المحافظ في ايران.

حيث يتبنى هذا التيار اهداف مثل الحفاظ على اهداف الثورة الإسلامية وتصديرها، وتدعم الحركات التحريرية او ما يعرف الان بحركات المقاومة، حيث بات هذا الموضوع يؤرق الشباب الإيراني من ان أموالهم تذهب الى الغرباء في حروب الوكالة في حين يعيش الإيرانيون وضع اقتصادي صعب جدا خصوصا مع الحصار الاقتصادي المفروض على إيران وتدهور العملة المحلية.

في حين يمثل التيار الثاني الإصلاحيون الذي لديهم نهج منفتح اتجاه الحقوق والحريات الشخصية، وتطوير الاقتصاد المحلي، والاكتفاء على الداخل ومحاولة الوصول الى تفاهمات بخصوص الأوضاع الإقليمية والدولية وملفات إيران الشائكة مثل النفوذ الإقليمي، والملف النووي، مع العلم غالبا ما يكون برامج الإصلاحيين تظل حبرا على ورق بسبب طبيعة رسم السياسات العامة في إيران حيث يتحكم المرشد الأعلى في إيران في توجهات الرئيس الداخلية والخارجية مع هامش السياسة التنفيذية لرئيس الجمهورية. كما ان الصراع على الرئاسة غالبا ما يكون عامل من عوامل الصراع ما بين القديم والجديد، وما بين الجيل الجديد المكون من الشباب الذي غالبا ما يكون هناك ميلاً تجاه الإصلاحيين وعندما يكون التيار الإصلاحي في السلطة فانه يسعى الى المصالحة مع الشباب او هذا الجيل عبر توفير الحد الممكن من الحريات الشخصية.

اكيد هناك جيل صاعد في إيران يختلف عن الجيلين المذكورين قد يكون ذو توجه خارج الأيديولوجيات او ذو توجه علماني يؤمن بقيم الحداثة والاطروحات الغربية الحديثة، خصوصا إذا ما علمنا ان الشعب الإيراني من الشعوب التي تصنف نفسها على انها من الشعوب المتطورة وذو سلوك تقدمي حضاري شانها شان المجتمعات الغربية الحديثة كما ان هناك جيل من الشباب من أبناء قادة الثورة ومؤيديها لا يزال يعد مدافعا قويا عن قيم الثورة ومبادئها.

ومما تقدم نصل الى الاتي ان الاحتجاجات الشعبية في إيران تكشف عن حجم الصراع الفكري والسياسي في أوساط الأجيال الشعبية والشبابية ويمكن تقسيمها الى الاتي:

1- جيل جديد

هذا الجيل من سماته انه ولد على معطيات الحداثة ومتطلع الى الحريات والحقوق الشخصية ويريد نظاما ديمقراطيا ودستورا يعتمد المدنية ومشاركة أكبر لأبناء المجتمع فيما يعرف بولاية الشعب او الامة. وغالبا ما يتألف هذا الجيل من الشباب والشابات من طلبة الجامعات وأبناء الطبقة الوسطى، وينقسم هذا الجيل بين التيار الإصلاحي والتيارات الحداثوية والمعارضة المحظورة في إيران.

2- جيل الثورة وأبناءها ومؤيديها

هذا الجيل يعد حامي الثورة ونظامها السياسي ويتسم هذا الجيل بالمحافظة وغالبا ما يكون في المدن الدينية وفي الأرياف كما انه يمثل اغلب رجالات السلطة والجيش والمؤسسات الأمنية والسياسية، ويعد هذا الجيل من أبناء ما قبل الثورة وما بعدها بالقياس الزمني إضافة الى الخط الأيديولوجي الداعي الى المحافظة على النظام والثورة بغض النظر عن التحديات التي يواجهها النظام.

3- جيل بين الجيلين او بين اطروحتين ومشروعين

هناك جيل شبابي متصاعد محبط من كل التيارات الفكرية وهذا الجيل يعيش اغترابا كاملا عن النظام السياسي والاجتماعي في إيران رغم قوميته التي يشترك بها من الأجيال المذكورة، حيث يقف هذا الجيل ضد مشروع الثورة الحالي وبين مشروع الإصلاحي التحرري الذي يتبناه شباب وشابات إيران خصوصا طلبة الجامعات والمدارس الثانوية.

ومع ما تقدم لابد ان تعي السلطات في إيران وغيرها من البلد مثل العراق على مستوى الساحة الشيعية من الوسط والجنوب ان تدرك ان هناك قوة لا يستهان بها وهي الأجيال الصاعدة من الشباب والتي لها تفكير مختلف عن تفكير السلطة مستفيدة من معطيات الحداثة والتكنولوجيا، وان محاولة محاكاة الجمهور بشعارات الأيديولوجيا او المؤامرات لم تعد تجدي نفعا مع الأجيال الشابة الصاعدة.

...........................................

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2022 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات