يأتي هذا التطور في سياق التحولات الدولية والإقليمية، وتغير موازين القوى الاقتصادية، حيث باتت الصين شريكاً محورياً في مشاريع البنية التحتية والطاقة بالعراق، بينما وجد العراق في الصين داعماً رئيسياً لمسار إعادة الإعمار والتنمية بعد سنوات من الصراعات.
أولاً: الإطار العام للعلاقات العراقية– الصينية
تُعد العلاقات بين بغداد وبكين من العلاقات التاريخية المتجذّرة، إلا أن مرحلة ما بعد 2018 مثّلت نقطة تحول استراتيجية، فقد تمّ تعزيزها عبر توقيع اتفاقية التعاون الإطاري الشامل بين البلدين في عام 2019، والتي شملت الجوانب الاقتصادية، والاستثمارية، والبنى التحتية، والطاقة، والتعليم، والنقل. كما دعمت مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013 هذا المسار، لتكون منصة لتقاطع المصالح التنموية بين الطرفين، حيث يسعى العراق إلى استثمار موقعه الجغرافي كحلقة وصل بين الشرق والغرب.
ثانياً: التطور في المجال التنموي
منذ 2018 اتجهت الصين إلى اعتماد سياسة “الدبلوماسية التنموية” في العراق، أي الدمج بين الأبعاد الاقتصادية والبنى التحتية كوسائل لتعزيز النفوذ الاقتصادي. تمثّل هذا في:
1. مشروعات إعادة الإعمار والبنى التحتية:
شاركت عدد من الشركات الصينية مثل PowerChina وSinopec وChina State Construction Engineering Corporation في تنفيذ مشاريع الطرق السريعة، والجسور، وشبكات الكهرباء، والمستشفيات، ومن أبرزها مشروع المدارس الألف الذي أُطلق عام 2022 لبناء أكثر من ألف مدرسة في مختلف المحافظات العراقية.
2. قطاع الطاقة والكهرباء:
تعد الصين أكبر مستورد للنفط العراقي، إذ تجاوز حجم التبادل النفطي بين البلدين 30 مليار دولار سنوياً بعد 2019. كما نفّذت شركات صينية مشاريع لتطوير محطات الكهرباء مثل محطة الرميلة الغازية ومحطة الناصرية الحرارية، بهدف سد العجز المزمن في الطاقة. وهناك محاولات لتعزيز التعاون في مجالات التدريب ونقل التكنولوجيا، من خلال اتفاقيات لتبادل الخبرات وتأسيس مراكز تدريب مشتركة في مجالات الاتصالات، والطاقة المتجددة، والنقل.
ثالثاً: المجال الاستثماري اتفاق “النفط مقابل الإعمار” أنموذجاً
يُعد اتفاق “النفط مقابل الإعمار” الموقّع عام 2019 من أهم الصيغ الجديدة في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، يقوم الاتفاق على تخصيص 100 ألف برميل نفط يومياً تودع عائداتها في حساب مصرفي خاص بالصندوق العراقي– الصيني، ليُستخدم في تمويل المشاريع الاستثمارية التي تنفذها الشركات الصينية داخل العراق، وقد مكّن هذا الاتفاق العراق من تجاوز بعض التعقيدات البيروقراطية في تنفيذ المشاريع، كما وفر تمويلاً مستقراً بعيداً عن تقلبات الأسواق المالية. أما بالنسبة للصين، فقد منحها الاتفاق موطئ قدم ثابتاً في سوق التنمية العراقي، ومصدراً مستداماً للطاقة.
رابعاً: أثر التعاون على التنمية الاقتصادية في العراق
ساهم التوسع الصيني في العراق في:
• تحفيز الاقتصاد المحلي عبر خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة.
• نقل التكنولوجيا والمعايير الهندسية الحديثة.
• تحسين البنية التحتية الأساسية التي تُعد شرطاً لتنشيط الاستثمار الداخلي والخارجي.
غير أن هناك تحديات تواجه هذا التعاون، أبرزها ضعف الإدارة المحلية، والبيروقراطية، وتأخر صرف المخصصات، إضافة إلى الانتقادات الغربية التي ترى في التغلغل الصيني تهديداً لنفوذها الاقتصادي والسياسي في العراق. كما تسعى الصين من خلال تعاونها مع العراق إلى تعزيز حضورها في منطقة الخليج والشرق الأوسط ضمن رؤيتها لمبادرة “الحزام والطريق”، بينما يحاول العراق تنويع شراكاته الدولية لتقليل اعتماده على الغرب والولايات المتحدة. هذا التوازن السياسي يمنح العراق هامش مناورة أكبر في سياساته الخارجية، ويتيح له الاستفادة من التنافس بين القوى الكبرى في تعزيز التنمية الوطنية.
ومما تقدم نستطيع القول، إن العلاقات العراقية– الصينية بعد عام 2018 تمثل نموذجاً لشراكة تقوم على المصالح المتبادلة، وتُظهر كيف يمكن للدبلوماسية الاقتصادية أن تتحول إلى رافعة للتنمية الوطنية، لقد ساهمت الصين في نقل العراق من مرحلة الإعمار المحدود إلى مسار تنموي أوسع، لكن استدامة هذا التعاون تتوقف على قدرة العراق على إدارة موارده بكفاءة، وتعزيز الشفافية والحوكمة في المشاريع المشترك حيث إن المستقبل مرشح لمزيد من التوسع في التعاون، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة، النقل الذكي، والتكنولوجيا الرقمية، مما يجعل من التجربة العراقية– الصينية نموذجاً بارزاً في علاقات الجنوب– الجنوب ضمن النظام الدولي الجديد.
.............................................
الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ
http://mcsr.net
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!