عوامل أساسية ترسم حسابات السياسة الخارجية الإيرانية

شارك الموضوع :

تدرك إيران تصاعد تدخل قوى خارجية كروسيا والصين في ديناميكية الحروب بالوكالة مما يقلّص من سيطرتها على هذه الجماعات، فقد وُجهت اتهامات لموسكو بتقديم دعم استخباراتي وتسليحي للحوثيين، ما يشير إلى أن هذه الجماعات لم تعد تتبع طهران بشكل كامل...

مقال بقلم الباحث أليكس فتانكا- معهد الشرق الأوسط

تبدو إيران في صورة وكأنها تعيد توجيه نهجها الدبلوماسي مع جيرانها ودول الغرب بناءً على أولوية اقتصادية فحسب، في الماضي كانت مبادرات إيران تجاه أمريكا وروسيا والسعودية تمثل خطوات براغماتية لمنافع قصيرة الأمد أكثر منها مؤشرات على تغيير أيديولوجي عميق، وقد يكون السرّ وراء هذا التغيير ضغوطا سياسية واقتصادية محلية -على الأرجح- وهو ما دفع إيران لإعادة النظر في نهجها التصادمي السابق مع القوى العالمية ودول الجوار، ومن ثم فإن  أحد أبرز التغيرات المحتملة الحدوث قريبا هو تخلي إيران عن الحوثيين، الأمر الذي سيعدّ تحوّلاً سياسيا كبيرا.

من هنا، ثمة خمسة عوامل رئيسية يجب وضعها تحت المراقبة أثناء إعادة طهران لصياغة حساباتها السياسية، وهذه العوامل يمكن متابعتها عبر تركيز السياسة الخارجية الإيرانية في ظل القيادة الجديدة، على تفعيل الخط الاقتصادي البراغماتي، خاصة مع أمريكا بوصف ذلك وسيلة لخفض التوتر إقليميا، وفي هذا السياق أشار وزير الخارجية عباس عراقجي في مقال له بصحيفة واشنطن بوست نشره مؤخرا إلى أن طهران بدأت تخاطب الرئيس دونالد ترامب من منظور المصلحة الاقتصادية، مقدمّة إيران بوصفها سوقا مفتوحا أمام الاستثمار الأمريكي شريطة رفع العقوبات، وفي هذا علامة واضحة على تحوّل "تكتيكي" نحو دبلوماسية قائمة على المكاسب بدلاً من الاصطفاف العقائدي، لاسيما مع التقليل من أهمية الأعمال العدائية الأمريكية السابقة كاغتيال قاسم سليماني، وهو الأمر الذي تؤكده طهران من خلال ما باتت تصفه بـ"استراحة ستراتيجية" بدلاً من المواجهة.

ومما يندرج تحت هذا السياق استقبال إيران لرجل الأعمال الأمريكي ستيف ويتكوف باعتباره مفاوضا مما يدل على نيتها إعادة صياغة العلاقات عبر التجارة لا الصراع، ومن ناحية داخلية تُسوَّق طهران هذه المقاربة بوصفها فصلا جديدا تتماشى مع دعوات لدعم وطني شامل نحو جذب الاستثمار الأمريكي على الرغم من اعتراضات بعض المتشددين، وهؤلاء في نهاية المطاف لا يملكون التأثير الكافي لإفشال المسار الدبلوماسي العام.

ورغم هذا الانفتاح الخارجي فإن القمع الداخلي ما يزال قائما، مما يثير الشكوك حول مدى جدية الإصلاحات؛ مع ذلك، فإن الأولوية في السياسة الخارجية يمكن إيجازها حاليا بالرغبة في الحصول على انفراج اقتصادي مع الولايات المتحدة بالتزامن مع السيطرة على الاضطرابات الداخلية.

اما التقارب الإيراني- السعودي، فإن الفكرة الأساسية من هذا التقارب ترمي إلى إدارة المخاطر أكثر من السعي لتحقيق الاستقرار، ومن هنا فإن التقارب الذي رعته جمهورية الصين عام  2023 بين إيران والسعودية يعدّ خطوة تكتيكية لخفض مستوى التصعيد، على أن الاستقرار الخليجي يظل مرادا بعيد المنال، والمبادرات السعودية الأخيرة بما فيها زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان إلى طهران في نيسان 2025 تُظهر رغبة واضحة للرياض تجاه تحاشي التورط في أي صراع إيراني- أمريكي محتمل، والسعودية من خلال تواصلها المباشر مع قادة الحرس الثوري الإيراني، تسعى لإحراز ضمانات بخصوص سياسات إيران الإقليمية التي تعتقد أنها تُصاغ عسكريا أكثر منها مصاغةً سياسيا ودبلوماسيا، وهذه الخطوة تشير إلى ستراتيجية سعودية نفعية براغماتية لتفادي الحروب الإقليمية بدلاً من إعادة هيكلة دائمة للعلاقات البينية مع طهران، وفي هذا الضوء ثمة أصوات داخل إيران تلمح إلى وجود تنسيق أمريكي خلف الكواليس لإحياء ستراتيجية جعل إيران والسعودية ركيزتين إقليميتين، ولو أن تصورا كهذا يظل –على الأرجح– تحليلا مبالغا فيه.

واقعيا فإن السعودية تستغل هذا التقارب لموازنة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، لا سيما من جهة التطبيع مع إسرائيل، وعلى الرغم من بلوغ العلاقات الإيرانية- السعودية ذروة حالات الانسجام منذ عقدين، لكن هذا الانفراج يظل هشا ومدفوعا بإدارة المخاطر، لا بحل جذور الصراع.

وبخصوص علاقات إيران مع روسيا والصين فإنها تمثل جزءا من ستراتيجية مواجهة العقوبات الأمريكية، لكن تلك العلاقات مرسومة بحدود معينة، فإيران تسعى لتفعيل شراكات في أطر دولية بعينها كمنظمة البريكس بقيادة روسيا، ومنظمة شنغهاي بقيادة الصين، على أن من المتوقع إبرام إيران لاتفاقية تجارة حرة مع روسيا لتعزيز التبادل الثنائي.

ومع ذلك، فإن جزءا كبيرا من النمو في التبادل التجاري بين إيران وروسيا يُعزى إلى تداعيات الحرب مع أوكرانيا وليس إلى تقارب ستراتيجي عميق، إلى ذلك تختلف مواقف البلدين بشأن القضايا الإقليمية، كمستقبل سوريا وإسرائيل، وتستشعر طهران الشك إزاء التزامات موسكو، إذ غالبا ما تفتقر التحركات في ما بينهما إلى التنسيق في مناطق النزاع كالقوقاز مثلا.

وعلى الرغم من تمسك مرشد الثورة الايرانية بعلاقات طويلة الأمد مع بوتين فإن اعتماد طهران على روسيا أقرب للتكتيك منه إلى التحالف الستراتيجي، ويُنظر إلى هذا التوجه بوصفه ضروريًا أكثر منه تغيّرا إيديولوجيا، ما يجعل الموقف الستراتيجي في إيران متأرجحا ومفتوحا على التحولات.

وعلى الصعيد الداخلي مجددا، فقد أثّرت الأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية في إيران كثيرا على سياساتها الخارجية لتدفعها في ما بعد إلى تبني نهج أكثر نفعية (براغماتية) وأقل تصلبا أيديولوجيا؛ لأن طهران تواجه سخطا شعبيا جراء سوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، وهو الأمر الذي يدفعها حكما لإعادة تقييم سياستها التصادمية، ومن هنا يُقارن كثير من الإيرانيين وضعهم بجيرانهم الخليجيين الذين نبذوا السياسات الدينية لصالح التكامل التجاري والانفتاح العالمي، مما منحهم نفوذا إقليميا أكبر، وعليه يزداد في الأوساط الإيرانية الخطاب الذي يرى أن التشبث بالأيديولوجيا قد عزل البلاد، في حين ازدهر المنافسون العرب، ومن شأن هذه المقارنات الدفع نحو توافق داخلي جديد صوب تبني دبلوماسية مرنة قائمة على التجارة، لا الانقسام بين الشرق والغرب، وفي هذا السياق أيضا تُعد التحولات السعودية عاملا مؤثرا هنا؛ إذ تُظهر لإيران أن البقاء في عالم معولم يتطلب التكيّف لا الجمود إيديولوجيا، كما أن محاولة طهران الانفتاح على إدارة ترامب تعكس هذا التحول سعيا للتخفيف من الضغوط الاقتصادية واستعادة المكانة الدولية.

وخاتمة هذه العوامل، وهي قوام هذا التحليل الذي نحن بصدده يتعلق بالمراهنة على الحروب بالوكالة بغية إعادة التوازن تكتيكيا؛ إذ إن ستراتيجية إيران المعتمدة على دعم الجماعات المسلحة كحزب الله وحماس والحوثيين تواجه تحديات كبيرة في ظل الضغوط الأمريكية والتغيرات الإقليمية، وتشير تقارير حديثة إلى أن طهران تراجع دعمها للحوثيين مع احتمالات سحب قواتها من اليمن لتجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.

هذا التراجع يعكس حاجة ملحّة لحماية أمنها الداخلي في ظل الضربات الأمريكية وتصاعد حضور واشنطن عسكريا في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وتوجيه طهران رسائل للحوثيين والميليشيات العراقية تقضي بضبط النفس يشير إلى هذا التحوّل الذي نتحدث عنه، فبدلاً من التصعيد عبر الوكلاء، يبدو أن إيران تسعى لاحتواء التوترات تفاديا لمنح ترامب ذريعة لضربات مباشرة، ومن هنا فقد خفف الحوثيون من نشاطهم ما يُظهر رغبة إيرانية لتخفيف الضغط الدولي وربما تقديم نفسها بوصفها وسيطا.

تدرك إيران تصاعد تدخل قوى خارجية كروسيا والصين في ديناميكية الحروب بالوكالة مما يقلّص من سيطرتها على هذه الجماعات، فقد وُجهت اتهامات لموسكو بتقديم دعم استخباراتي وتسليحي للحوثيين، ما يشير إلى أن هذه الجماعات لم تعد تتبع طهران بشكل كامل!، وهذا لا يعني التخلي الإيراني عن سياسة ستراتيجية الوكلاء كليا، بل يمثل إعادة تموضع تكتيكي، فطهران تسعى لتجنّب التصعيد المكّلِف مع الحفاظ على النفوذ الإقليمي، مما يجعل دعمها لهذه الجماعات أكثر انتقائية وواقعية مقارنة بالأيام الخوالي.

وعليه فالسياسة الخارجية الإيرانية على مفترق طرق من حيث التحديات والفرص، وخلال السنوات الخمس القادمة ستواجه إيران تحديين الأول يتمثل في تجاوز الركود الاقتصادي والتخلص من هيمنة المتشددين؛ إذ النقاد في الداخل يرون أن المنظّرين المتشددين في السياسة الخارجية يفتقرون للخبرة والواقعية محملين إياهم مسؤولية إدخال البلاد في عزلة ستراتيجية عبر الاعتماد على الشعارات الدينية والمعاداة للغرب في حين تفوقت دول الخليج بمقارباتها النفعية (البراغماتية)، فمن الناحية الاقتصادية تعيش إيران أضعف أوضاعها منذ الحرب مع العراق وسط أزمات مصرفية وبيئية مع انعدام ثقة شعبية، وفي هذا تقييد لقدرتها على استخدام السياسة الخارجية لإحياء الاقتصاد المتدهور، ومن دون إصلاحات حقيقية ستجد القيادة في طهران نفسها فاقدة للشرعية الاجتماعية في ما يخص إدارة مشاريع اقتصادية كبرى، لاسيما مع وجود مصالح داخلية تعيقها عن التقدم على أن الفرص ما تزال قائمة، إذ قد يؤدي دخول الولايات المتحدة بصفقة نووية جديدة إلى تخفيف العقوبات وفتح المجال للنمو الاقتصادي، هذا إذا استعاد المعتدلون نفوذهم، فإدراك ارتباط الأزمات الاقتصادية بالسياسة الخارجية العدائية يحفّز أطرافا داخلية لدفع طهران نحو مزيد من الليونة الدبلوماسية والاندماج مع العالم. صفوة الكلام فإن أكبر فرصة لإيران تتجسد في التخلي عن الجمود الآيديولوجي، وتبني براغماتية اقتصادية، وهذا متوقف على إمكانية تجاوز سطوة التيار المتشدد.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل