مما اضطر رئيس الجلسة ان يؤجل الانتخاب الى اليوم التالي رغم تأكيد القضاء على الالتزام بالتوقيتات الدستورية في اختيار رئاسة مجلس النواب بأركانها الثلاثة، يأتي ذلك بعد تمرير موقع رئيس مجلس النواب للنائب هيبت الحلبوسي وهو قيادي في حزب تقدم ومقرب من محمد الحلبوسي الرئيس الأسبق لمجلس النواب، فيما ذهب موقع النائب الأول للنائب عدنان فيحان الدليمي القيادي في حركة عصائب اهل الحق وهو يشغل موقع محافظ بابل، وهو أي النائب الثاني منصب لا يقل أهمية عن بقية المناصب القيادية في البرلمان، إذ يمثل مؤشرًا على التوازنات السياسية الداخلية وقدرة الأطراف على فرض نفوذها الرمزي والاستراتيجي.
الصراع السياسي واللعبة التكتيكية
استخدمت بعض الشخصيات السياسية لاسيما بعض الاجنحة العسكرية السياسية في الاطار التنسيقي، موقف جماعة الموقف الوطني الكردية كأداة تكتيكية في هذه المعركة السياسية، ويبدو واضحًا أن هذا الاستخدام لم يكن خفيًا، بل كان مكشوفًا للمتابعين، حيث استغل الولائي مثلا الانقسامات الداخلية للضغط على حزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) لمنعه من المطالبة بمنصب رئيس الجمهورية. من هذا المنظور، يظهر أن الصراع حول منصب النائب الثاني لم يكن مجرد خلاف على موقع قيادي، بل أداة لتكريس النفوذ وفرض شروط سياسية على الأطراف الأخرى، خاصة في ظل التوازنات الهشة بين المكونات العراقية.
التواطؤ المكشوف للفاعلين السياسيين الشيعة
تواطؤ بعض الفاعلين الشيعة مع هذه الاستراتيجية كان واضحًا للعيان إذ أسهم هذا التواطؤ في تعزيز اللعبة التكتيكية للولائي، وهو ما كشف طبيعة التحالفات السياسية غير المستقرة في العراق، والتي تقوم على المصالح اللحظية أكثر من التحالفات البراغماتية طويلة المدى.
البعد الاستراتيجي: الإقصاء الرمزي
الأهم من الجانب التكتيكي للصراع، هو البعد الاستراتيجي الذي يتكشف على نحو أعمق، فالغرض الحقيقي من هذه التحركات ليس مجرد الضغط على البارتي، بل تمرين على الإقصاء الرمزي للفاعلين السياسيين الأكراد داخل المشهد السياسي العراقي.
هذا التمرين السياسي يتبع نهجًا سبق تطبيقه على الفاعلين السياسيين السنة وبعض القوى الشيعية ايضاً في الدورات السابقة، حيث تم عزلهم رمزيًا عن مراكز اتخاذ القرار، وحرمانهم من أي مواقع تمثل قوة سياسية مباشرة، رغم حضورهم الكمي في البرلمان. وبالمثل، فإن الأكراد الآن يواجهون محاولة مماثلة لإضعاف حضورهم الرمزي، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف قدرتهم التفاوضية مستقبلًا على مستوى المناصب الرئاسية والتنفيذية.
انعكاسات الصراع على العملية السياسية
يتضح أن هذا الصراع ليس محصورًا في شؤون المنصب البرلماني وحده، بل له انعكاسات أوسع على العملية السياسية العراقية، منها محاولة إعادة تقسيم موقع منصب رئيس الجمهورية أو المناصب السيادية، وتعميق الانقسامات بين الفواعل الشيعية والأكراد على المستوى الاستراتيجي، وليس فقط التكتيكي، وتكرار التجربة التي تم فيها الصراع المكوناتي ما يفتح الباب لتكرار نمط الاستبعاد الرمزي مستقبلاً.
سيناريوهات تطور الصراع
في ضوء المعطيات الحالية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمآلات الصراع على منصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب الحالي.
السيناريو الأول/ يتمثل في نجاح القوى المتحكمة بالقرار البرلماني في فرض مرشح تسوية، بما يحقق إقصاء رمزيا جزئيا للقوى الكردية، مع الإبقاء على تمثيل شكلي لا يرقى إلى مستوى التأثير الحقيقي في مراكز القرار، وهو سيناريو يعزز منطق الهيمنة التدريجية ويعيد إنتاج اختلال التوازن المكوناتي.
السيناريو الثاني/ يقوم على تصعيد كردي سياسي وإعلامي، قد يدفع باتجاه تعطيل مؤقت أو إعادة التفاوض على مجمل التفاهمات السياسية، بما في ذلك ملف رئاسة الجمهورية، الأمر الذي قد يفتح بابا لتسويات أشمل ولكن بكلفة سياسية مرتفعة على استقرار التحالفات القائمة.
السيناريو الثالث/ وهو الأقل احتمالا، فيفترض حدوث مراجعة داخلية من قبل القوى الشيعية الفاعلة، تقود إلى إعادة الاعتبار لمبدأ الشراكة الرمزية الفاعلة، تجنبا لانفجار سياسي مؤجل، خصوصا في ظل هشاشة النظام السياسي واعتماده على التوازنات لا على منطق الأغلبية المستقرة.
وبغض النظر عن السيناريو الأقرب للتحقق، فإن استمرار سياسة الإقصاء الرمزي ينذر بتحولات أعمق في سلوك المكونات العراقية، وقد يدفعها إلى إعادة تعريف مشاركتها في العملية السياسية، ليس بوصفها شراكة وطنية، بل كمعادلة قوة متغيرة.
ومما تقدم، إن الصراع على منصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب في الدورة السادسة لا يمثل مجرد صراع تكتيكي على موقع قيادي، بل هو جزء من استراتيجية سياسية أوسع تهدف إلى إعادة رسم النفوذ الرمزي للمكونات العراقية. استخدام البعض لموقف جماعة الموقف الوطني، قد يشكل تمرينًا سياسيًا على السيطرة الرمزية، بينما الضغط على البارتي يعكس أبعادًا تكتيكية محدودة في النهاية، يعكس هذا المشهد ضرورة مراجعة القوى الكردية والسنية وبعض القوى الشيعية لمراكز نفوذها الرمزي، وتعزيز قدرتها على حماية حضورها السياسي، ليس على المستوى الكمي فقط، بل على المستوى الرمزي الذي يضمن مشاركتها الفاعلة في صناعة القرار الوطني.
.............................................
الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ
http://mcsr.net
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!