مستقبل إدارة قطاع غزة.. سيناريوهات التحول السياسي والأمني والإقليمي

مستقبل إدارة قطاع غزة.. سيناريوهات التحول السياسي والأمني والإقليمي
يشكّل وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين الكيان الإسرائيلي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في حال استدامته، نقطة تحوّل مفصلية في مسار الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي،

ويفتح الباب أمام إعادة طرح سؤال إدارة القطاع سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا فغزة لا تمثل مجرد مساحة جغرافية محاصرة، بل عقدة استراتيجية تتقاطع فيها الحسابات المحلية الفلسطينية، والأمنية الإسرائيلية، والأدوار الإقليمية والدولية بالإضافة الى المدن التاريخية الفلسطينية مثل القدس الذي سيظل المقصد الاستراتيجي في الصراع رغم سيطرة الجانب الإسرائيلي على تلك المدينة وذلل المشهد التاريخي. وعليه، فإن مستقبل إدارة القطاع لن يُحسم بمعزل عن موازين القوى، وإعادة هندسة النظام السياسي الفلسطيني، وطبيعة التفاهمات الإقليمية.

 

أولًا: مستقبل حركة حماس في قطاع غزة

منذ عام 2007، ارتبطت إدارة غزة عضويًا بحركة حماس، بوصفها سلطة أمر واقع تمتلك أدوات الحكم عبر صناديق الانتخابات والسيطرة الأمنية وبعد وقف إطلاق النار بين الحركة والكيان الإسرائيلي بعد حرب غير مسبوقة منذ عقود بعد ان اندلعت بعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، وبذلك يُرجّح أن تواجه الحركة أحد ثلاثة مسارات رئيسة: الاستمرار المشروط على بقاء حماس فاعلًا سياسيًا وأمنيًا داخل القطاع، ولكن ضمن قيود إقليمية ودولية تقلّص من طابعها العسكري، مقابل قبولها بدور إداري أو سياسي غير منفرد او مسار إعادة التموضع من خلال انتقال الحركة من سلطة حكم مباشر إلى فاعل سياسي– اجتماعي، مع فصل نسبي بين الجناحين السياسي والعسكري، استجابةً لضغوط التسوية وإعادة الإعمار.

اما المسار الثالث فيتمثل بالتهميش التدريجي وهو سيناريو أقل ترجيحًا، يفترض إقصاء الحركة من إدارة القطاع بفعل ضغوط دولية أو ترتيبات أمنية جديدة، لكنه يصطدم بواقع حضورها الشعبي والتنظيمي. وعليه، فإن مستقبل حماس سيُحدَّد بمدى قدرتها على التكيّف مع متغيرات ما بعد الحرب، وليس فقط بنتائج المواجهة العسكرية.

ورغم انسحاب الكيان الاسرائيلي الشكلي من القطاع عام 2005، لا يزال الكيان الإسرائيلي لاعبًا حاسمًا في تحديد مستقبل غزة، من خلال التحكم الأمني غير المباشر عبر الرقابة الجوية والبحرية، وإدارة المعابر وفرض معادلات الردع لمنع إعادة بناء القدرات العسكرية للفصائل والتأثير في شكل الإدارة من خلال اشتراط "نزع التهديد الأمني" كمدخل لأي تسوية أو إعادة إعمار، غير أن إسرائيل في المقابل لا تبدو راغبة في تحمّل عبء الإدارة المباشرة للقطاع، لما يحمله ذلك من كلفة سياسية وأمنية واقتصادية.

 

ثانيًا: شكل الإدارة السياسية والأمنية لقطاع غزة

تتجه معظم الطروحات الدولية والإقليمية نحو رفض نموذج "السلطة المنفردة"، مقابل تبني صيغ هجينة للإدارة، من أبرزها: إدارة فلسطينية موسعة قد تضم تكنوقراط مستقلين، أو حكومة وحدة وطنية بإشراف السلطة الفلسطينية، مع ضمانات دولية او إدارة أمنية مُعاد هيكلتها تقوم على أجهزة أمن فلسطينية غير فصائلية، تخضع لإعادة تدريب وإشراف إقليمي أو دولي، لضمان الاستقرار ومنع الانفلات، او يحكم قطاع غزة من خلال وصاية دولية (إقليمية مؤقتة) كمرحلة انتقالية لإعادة الإعمار وترتيب الأوضاع، رغم ما يحيط بها من إشكاليات سيادية، ويبقى نجاح أي نموذج مرهونًا بقبول الفاعلين المحليين، وتوفر إرادة سياسية فلسطينية جامعة.

 

ثالثاً: دور الدول العربية والاسلامية في قطاع غزة

تلعب الدول العربية أدوارًا متباينة، لكنها متكاملة في بعض جوانبها فمصر تُعد الفاعل العربي الأكثر تأثيرًا، بحكم الجغرافيا والأمن القومي، وتؤدي دور الوسيط الرئيس في التهدئة، وضابط إيقاع أي ترتيبات أمنية، اما قطر فتبرز كداعم مالي وإنساني محوري، وتتمتع بقنوات اتصال مع مختلف الأطراف، ما يؤهلها للمساهمة في إعادة الإعمار وتخفيف الأزمات المعيشية، في حين ان السعودية يتجسد دورها في البعد السياسي والاستراتيجي الأوسع، وربط ملف غزة بالمسار الفلسطيني الشامل وبالتوازنات الإقليمية، كما ان الأردن ركّز دوره على البعد السياسي والوصائي، خاصة ما يتصل بالقضية الفلسطينية ككل والاستقرار الإقليمي، وتشير هذه الأدوار إلى أن غزة قد تتحول إلى ساحة تنسيق عربي– عربي، بدل كونها ساحة صراع نفوذ.

وتسعى تركيا إلى تثبيت حضورها في الملف الفلسطيني عبر أدوات إنسانية وسياسية، مستندة إلى علاقاتها مع الفصائل، وشبكة مؤسساتها الإغاثية، ويُرجّح أن يتمثل دورها في دعم مشاريع الإغاثة وإعادة الإعمار ولعب دور سياسي داعم للحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية، ومحاولة تحقيق توازن بين علاقاتها الإقليمية، بما لا يصطدم مباشرة بالترتيبات الدولية غير أن الدور التركي يبقى محكومًا بسقف التفاهمات الدولية، وحدود القبول الإسرائيلي.

ومما تقدم، فإن مستقبل إدارة قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار سيتجه -على الأرجح- نحو نموذج انتقالي مركّب، لا غالب فيه ولا مغلوب، يقوم على تقليص منطق الحكم العسكري، وتعزيز الإدارة المدنية والخدمية ومحاولة إدماج غزة في مشروع وطني فلسطيني أوسع وربط إعادة الإعمار بالاستقرار السياسي والأمني غير أن فشل هذه الرؤية سيعني إعادة إنتاج دورات العنف، وتكريس غزة كأزمة مفتوحة في النظام الإقليمي وبذلك لا يمكن فصل مستقبل إدارة قطاع غزة عن التحولات البنيوية في القضية الفلسطينية، ولا عن إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، فغزة بعد وقف إطلاق النار، لن تكون كما قبلَه، لكن شكلها القادم سيظل رهينًا بقدرة الفاعلين على الانتقال من منطق الصراع الصفري إلى منطق التسويات المرحلية، بوصفها المدخل الوحيد للاستقرار المستدام.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net


د. اسعد كاظم شبيب

د. اسعد كاظم شبيب

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!