قضايا محلية

الانتخابات النيابية المبكرة في العراق وتحديات المرحلة الراهنة

    بعد التغيير السياسي الذي حصل في العراق عام 2003 ومرور الاخير بمرحلة تحول في طبيعة النظام السياسي من النظام الشمولي الذي كرس السلطة السياسية بحزب سياسي واحد وسيطرته التامة على القرار السياسي في البلاد إلى النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، واشراك مكونات المجتمع بكافة طوائفه في التمثيل النيابي الذي اقره دستور العراق الدائم لعام 2005، الذي جسد مرحلة سياسية جديدة قوامها البدء بالانتقال الديمقراطي من حيث الانتخابات وتداول السلطة سلمياً، فقد نصت المادة الخامسة من الدستور بأن (السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية)، في حين جاءت المادة السادسة (يتم تداول السلطة سلمياً عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور).

اما المادة العشرون فقد بينت من لهم حق المشاركة في العمل السياسي وفق آليات الدستور وهي (للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح).

وعلى هذا الاساس فقد جرت في العراق خمس دورات انتخابية لمجلس النواب منذ انطلاقها عام 2005، ليكون الانتخاب هو السبيل الوحيد لاختيار ممثلي الشعب وزعامات البلاد، ومن ثم اختيار الرئاسات الثلاث المؤلفة من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان التي توزع من خلالها السلطات والأسماء التي تتولّى إدارة الدولة كل أربعة أعوام.

وبعد ظهور حركة الاحتجاجات في تشرين عام 2019 واستقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي وتشكيل الحكومة برئاسة السيد مصطفى الكاظمي كانت أحدى مهامها اجراء انتخابات مبكرة تلبية لمطالب المحتجين، فقد تم اعتماد نظام انتخابي جديد بموجب قانون انتخابات مجلس النواب رقم (9) لعام 2020 والذي نص على تقسيم البلاد إلى (83) دائرة انتخابية، وعدم اعتبار المحافظة دائرة واحدة كما كان يحصل في الدورات الانتخابية السابقة، واعتماد نظام الفائز الاول ومغادرة نظام سانت ليغو المعدل اذ يعد المرشح الحائز على أكبر عدد من الأصوات هو الفائز، وأجريت فعلا الانتخابات وفقا لهذا النظام الجديد في العاشر من تشرين الأول عام 2021، واعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات النتائج في 3/11/2021 وبنسبة مشاركة بلغت 44%.

اما فيما يتعلق بتقسيم تلك الدوائرفي المحافظات العراقية فقد قسمت بغداد إلى 17 دائرة وفاز عنها 71 نائبا، بينما قسمت نينوى إلى 8 دوائر فاز عنها 34 نائبا، والبصرة 6 دوائر بواقع 25 نائب، وتأتي الدوائر الانتخابية في ذي قار بـ5 دوائر فاز فيها 19 نائب، في حين ان بابل شملت 4 دوائر مخصصة لـ 17 نائبا، بينما ضمت الانبار 4 دوائر وفاز عنها 15 نائبا، وفي محافظة ديالى كانت هناك 4 دوائر انتخابية فاز منها 14 نائبا، وكركوك 3 دوائر وفاز منها 13 برلمانيا، والنجف 3 دوائر لـ 12 نائبا، وكان عدد الدوائر الانتخابية في محافظتي صلاح الدين وواسط 3 لكل منهما، وفاز كل واحدة منهم بـ12 نائبا، وكذلك 3 دوائر لكل من محافظتي كربلاء والقادسية، بواقع 11 نائبا، فيما كانت محافظة ميسان نفس عدد الدوائر وبواقع 10 نواب، اما في محافظة المثنى فقد كانت دائرتين بواقع 7 نواب.

اما في محافظات اقليم كردستان فقد قسمت الدوائر الانتخابية في السليمانية الى  دوائر5 وفاز منها 18 نائبا، بينما جاءت اربيل بـ4 دوائر انتخابية بواقع 16 نائبا، اما دهوك فقد قسمت لثلاثة دوائر وفاز منها 12 نائبا.

وعليه فأن اعتماد نظام الدوائر المتعددة صحيح جاء كتلبية للرغبات والمطالب الشعبية العراقية بالدرجة الأولى لغرض أن يكون هناك تمثيل شعبي حقيقي للمرشحين الا ان نضج الناخب العراقي لا يزال ليس بالمستوى الذي يتوافق مع نظام الدوائر المتعددة، لان معيار الانتخابات في العراق لم يكون على مدار الاعوام السابقة على أساس البرامج والطروحات الانتخابية، بل وفق أسس عديدة منها (المناطقية، والعشائرية، والمذهبية) رغم ذلك فأن هذه الانتخابات قد تمخضت عن صعود بعض القوى السياسية الجديدة المستقلة.

ومن نتائج هذه الانتخابات هو ما حصل عليه السيد الصدر الذي يتزعم الكتلة الصدرية على اكبر عدد من المقاعد البرلمانية بـ(73) مقعدا في البرلمان المكون من 329 مقعد، وبالرغم من ان المكونات والاحزاب السياسية للقوى الأخرى قد حسمت امرها في عملية تشكيل رئاسة البرلمان، والتشاور والتباحث بين الحزبين الكرديين في حسم ملف رئاسة الجمهورية الذي لا يزال مرتهن بتنازلات احد الحزبين الكبيرين، الا ان القوى السياسية الشيعية لم تحسم امرها في عملية ترشيح رئيس وزراء وبدء الصراع بين قوى الاطار التنسيقي الذي ضم ائتلاف مجموعة من التيارات والاحزاب الشيعية، والتيار الصدري حول احقية الكتلة الأكبر في تشكيل الحكومة، اذ طرح السيد الصدر مشروع حكومة الاغلبية الوطنية الا ان قوى الاطار التنسيقي التي تشكلت بعد هذه الانتخابات والتي ضمت احزاب وزعامات من ذات المكون الشيعي، رفضهم مشروع الاغلبية وترجيح حكومة توافقية ذات اغلبية وطنية، وكما في كل الدورات الانتخابية السابقة، اذ تخوض الكتل السياسية الفائزة والخاسرة مفاوضات ومباحثات شاقة ومعقدة تسبق الاعلان عن الكتلة النيابية الأكثر عددا وتسمية مرشحها لرئاسة الوزراء.

ان ازمة تحديد الكتلة الأكبر تعود الينا مرة اخرى بعد كل اربع سنوات والحقيقة ان الكتلة الأكبر واحدة من الانفاق التي دخلتها الحياة السياسية العراقية بعد عام 2005، اذ نصت المادة 76 من الدستور العراقي على ما يلي (يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية)، وبحسب رأي خبراء ان الدستور لم يقل الكتلة الانتخابية بل الكتلة النيابية لأن الفائز في الانتخابات لا يعتبر نائبا، والكتلة الانتخابية لا تعتبر كتلة نيابية الا بتحقق ثلاثة مراحل تتمثل في الفوز بالانتخابات ومصادقة المحكمة الاتحادية، واداء اليمين الدستوري، لذلك جاء تعبير الدستور واضحا بقوله مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا، ولم يقل مرشح الكتلة الفائزة في الانتخابات.

ولعدم التوصل لاتفاق بين قوى الاطار التنسيقي والكتلة الصدرية في عملية تشكيل الحكومة مما دفع الصدر الى الانسحاب من البرلمان وعدم الانخراط في العملية السياسية التي انعكست بظلالها على المشهد السياسي بشكل عام، في المقابل فقد ادت حادثة التسريبات الصوتية الى تعقيد المواقف، وبعد المباحثات بين قيادات الاطار التنسيقي في عملية اختيار رئيس الوزراء فقد وافقوا بالاجماع على طرح السيد محمد شياع السوداني كمرشح توافقي لهذه المهمة، الا ان بيانات السيد الصدر جاءت بالضد من اختيار السيد السوداني مما حرك ورقة الشارع والخروج بتظاهرات منددة بالفساد وتعطيل عمل المؤسسات الحكومية والسيطرة على البرلمان والدفع باتجاه اعادة انتخابات برلمانية مبكرة والغاء النظام السياسي وحل البرلمان، وبين شد وجذب قد وصلت إلى حد الاختناق السياسي بين ذات المكون (الشيعي).

ومن الواضح أن السباق الانتخابي في العراق له خصائصه وميزاته المنفردة وهو يعتمد بشكل مباشر على الخصوصيات الطائفية والمنافسات الاقليمية في عملية اختيار الحكومة، والواقع ان عملية اجراء انتخابات مبكرة وحل البرلمان في العراق يصطدم بتحديات ومعوقات هي آلاليات الدستورية والرجوع لنص المادة (64) من الدستور، ان اجراء الانتخابات في ظل الجمود السياسي وازمة التخصيصات المالية والدعم اللوجستي مسألة اجرائها صعبة جدا، ايضاً استمرار الخلافات بعدم حسم ملف تشكيل الحكومة التي راح من عمرها قرابة السنتان ومدى التزامها بالتوقيتات والصياغات الدستورية مما يولد حدوث فجوة كبيرة بين القوى السياسية الذي ينعكس على عدم تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي في معظم مدن البلاد، فضلا عن ذلك ان الازمات السياسية احيانا تؤدي الى التأثير على واقع المجتمع وارتفاع منسوب الكراهية بينهم وبين صفوف الاحزاب السياسية خصوصا الشيعية نتيجة الانشفاق السياسي وعدم التوافق ربما قد تنذر بمنزلق خطير, قد تصل الى صدام مسلح لا سامح الله.

في الجانب الاخر سنكون امام تحدي اخر هو سيناريو انتفاضة تشرين وهو الذي سيتكرر في حال تشكلت حكومة توافقية بمعزل عن ارادة الصدر وبالتالي يكون الوضع اقوى من تشرين قد يؤدي إلى اسقاط الحكومة في حال تشكلت مثلما سقطت حكومة عادل عبد المهدي التوافقية بعد سنة من تشكيلها.

ان الحكومة التوافقية تؤدي في واقع الامر إلى غياب مفهوم المعارضة السياسية، لان الجميع يشترك في تشكيل الحكومة من الفائز الاول إلى الخاسر الاخير في كل انتخابات نيابية عراقية، اضافة الى ذلك ان الدعوة الى انتخابات مبكرة جديدة التي اطلقها الصدر ولدت ردود افعال متباينة من قبل قوى الاطار الذي صرح فيه مؤخرا السيد المالكي بعدم حل البرلمان واجراء انتخابات مبكرة مما ولد حالة من التصعيد ستعقد المشهد اكثر، وفي حال وافق الاطار على ذلك فانها تكون مشروطة بالغاء قانون الانتخابات الجديد المتعدد الدوائر الذي كلفهم خسارة كبيرة للاصوات والعودة لنظام الانتخاب السابق ذات الدائرة الواحدة.

ان ادوات الحل السياسي لابد ان تخضع لشروط توافقية بين القوى السياسية الشيعية وعودة التفاوض والحوار مع السيد الصدر وارجاع نوابه الى البرلمان وتشكيل جبهة معارضة بعد اختيار شخصية سياسية لمنصب رئاسة الوزراء تتفق مع مطالب السيد الصدر.

خلاصة القول ان انهيار الدولة العراقية بعد عام 2003، كناظم للعلاقات الداخلية شكل صدمة كبيرة لمجتمع اعتاد العيش في ظل دولة صارمة تمارس سيطرة مركزية تتدخل حتى في شؤون الأسرة، مما ولد اتجاها معاكسا تمثل في تعاظم الميول نحو مرجعيات سياسية ودينية واجتماعية جديدة على أسس عرقية وطائفية، وأصبح العديد من هذه الجماعات مسلحة ومنظمة، وكان هذا منزلقاً خطيراً نحو دوامة العنف الداخلي التي عصفت بالمجتمع.

...........................................

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2022 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات