بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية عام ٢٠٢٤ تعامل الكيان الإسرائيلي مع التغيير الجديد في سوريا باعتباره تهديد استراتيجي لأمنه القومي، وسعى منذ البداية إلى إضعاف واحتواء هذا التغيير من خلال منع استقرار سوريا عبر جملة من الإجراءات، شملت استهداف القدرات العسكرية المتبقية بشن ضربات جوية، واحتلال المنطقة العازلة في القنيطرة، والتدخل في الشأن الداخلي السوري تحت ذرائع مثل حماية الدروز، بل وتكرار الدعوات إلى تقسيم سوريا إلى دويلات.
وعلى الصعيد الدولي، عارض الكيان الاسرائيلي بقوة أي تحركات لرفع العقوبات الأمريكية عن سوريا ما بعد الأسد، فمع تولي دونالد ترامب الرئاسة في ٢٠ كانون الثاني المنصرم، سارع رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو إلى مطالبته بعدم دعم السلطة الانتقالية الجديدة، محذراً من تكرار سيناريو ٧ أكتوبر ولكن هذه المرة من الجبهة السورية، إلا أن زيارة نتنياهو الثانية لواشنطن في نيسان الماضي، ثم لقاء ترامب برئيس السلطة السورية الانتقالية أحمد الشرع في الرياض في 13 آيار الماضي، الذي أعلن خلاله عن رفع العقوبات وتعيين توماس برّاك مبعوثاً خاصاً إلى سوريا، مثلت نقطة تحول في مشهد تطور العلاقات الاسرائيلية السورية، إدراكاً للتحول في الموقفين الإقليمي والدولي، خصوصاً الأمريكي، بدأ الكيان الإسرائيلي بإعادة تقييم سياساته تجاه سوريا، واتضحت هذه المراجعة مع إعلان الشرع، خلال زيارته لباريس في 7 ايار الماضي، عن وجود مفاوضات غير مباشرة بين سوريا والكيان بوساطة طرف ثالث، بهدف منع التصعيد وضبط الأوضاع.
وفقاً لذلك، ادرك الكيان الاسرائيلي ضرورة التقارب مع سوريا الجديدة والتفاهم والتهدئة معها، وبدأت المباحثات فعلياً بشكل غير معلن برعاية إماراتية بعد زيارة الشرع إلى أبوظبي، وتركزت المباحثات على قضايا أمنية واستخباراتية، وبناء الثقة.
في ضوء ذلك، سنبحث في مؤشرات نجاح هذه المفاوضات، وتحدياتها، ثم سيناريوهات العلاقة بين الطرفين وفقاً لمعطيات هذه المباحثات والمتغيرات الجديدة، وكالاتي:
اولاً: مؤشرات نجاح المفاوضات بين الطرفين: تنطلق هذه المؤشرات من مواقف الجانبين وكالآتي:
١- الموقف السوري:
اول مؤشر يرجح نجاح هذه المفاوضات يتمثل بنقل أرشيف الجاسوس الاسرائيلي إيلي كوهين، اذ تم نقل ٢٥٠٠ وثيقة وغرض تم بالتنسيق مع السلطة السورية، بعدها برز الانفتاح على الطائفة اليهودية، اذ نظّمت سوريا لقاءات مع يهود سوريين داخل البلاد وفي الخارج، كرسالة تصالحية غير مباشرة، كما يعد التحرك ضد الفصائل الفلسطينية التي شملت اعتقال قياديين من حركة الجهاد الإسلامي وإبلاغ واشنطن رسمياً بأن سوريا لن تسمح بأن تكون منطلقاً لأي تهديد، بما في ذلك ضد الكيان الإسرائيلي ضمن بواعث هذه المؤشرات.
كما تمت الإشارة إلى إمكانية الانضمام للاتفاقيات الإبراهيمية بعد تصريح الشرع أمام نواب أمريكيين بأن سوريا منفتحة على هذا الخيار تحت ظروف مناسبة، رغم التعقيدات المرتبطة بالأراضي السورية المحتلة.
٢- الموقف الاسرائيلي:
عمل الكيان مؤخراً على خفض وتيرة الغارات الجوية الإسرائيلية بعد لقاء نتنياهو وترامب في 8 نيسان الماضي، كما تم التعامل بشكل مختلف مع ملف الدروز واكتفى الكيان بردود فعل رمزية رغم تهديداته السابقة، بل دعا لأول مرة النظام السوري لتحمل مسؤولياته تجاه أبناء هذه الطائفة.
٣- مصالح الطرفين من التقارب والتفاهم:
تندرج من وجود مصالح استراتيجية مباشرة لكل طرف، فسوريا تسعى إلى كسب اعتراف إقليمي ودولي، وتحقيق الاستقرار الداخلي، ورفع العزلة عنها، وتجنب الصدام مع قوة إقليمية كالكيان الاسرائيلي، خصوصاً في ظل حاجتها لإعادة الإعمار وضبط الأمن، اما الكيان الاسرائيلي فيهدف إلى منع عودة جبهة الجولان إلى حالة التهديد، وكبح النفوذ الإيراني في جنوب سوريا، بالإضافة إلى ضمان استقرار حدوده الشمالية، خصوصاً في ظل التغيرات الإقليمية العميقة، والحد من نشاط الفصائل الفلسطينية، من خلال الضغط على النظام السوري لتفكيك المنظمات الفلسطينية المسلحة ومنع أي نشاط سياسي أو عسكري لها داخل سوريا، خصوصاً بعد إنهاء وجود النفوذ الإيراني هناك، وتشكل هذه الخطوة ضمانة بأن لا تتحول سوريا مرة أخرى إلى حاضنة لفصائل مثل الجهاد الإسلامي وحماس، التي كانت لها قاعدة هناك.
ثانياً: تحديات التقارب السوري مع الكيان الاسرائيلي:
بالمقابل تبرز عدة تحديات امام التقارب بين الطرفين تتمثل بالاتي:
١- التنافس بين تركيا والكيان الاسرائيلي في سوريا:
قد تتحول سوريا إلى ساحة صراع بين تركيا والكيان الاسرائيلي، خصوصاً مع تصاعد التوتر بشأن التموضع التركي هناك، الذي تعتبره تل أبيب تهديداً مباشراً، ومن شأن هذا التنافس أن يعقّد جهود التفاهم بين سوريا والكيان.
٢- ملف الأقليات السورية:
لا يزال الكيان الاسرائيلي أو بعض التيارات داخله يستخدم ورقة الأقليات، خاصة الدروز والأكراد، كوسيلة للضغط على النظام السوري وضمان نفوذه داخل سوريا، وتعد هذه الورقة حساسة يصعب على الكيان الاسرائيلي التخلي عنها في هذه المرحلة المفصلية.
٣- المعارضة الداخلية السورية للتفاهم مع الكيان الاسرائيلي:
اذ يواجه النظام الجديد معارضة من تيارات داخلية بعضها دينية متشددة، ترفض أي نوع من التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، كما أن أطرافاً معارضة مدعومة من المحور الإيراني قد تستغل هذه المباحثات لتشويه صورة النظام، واتهامه بالتواطؤ مع الكيان الاسرائيلي، في محاولة لإضعاف شرعيته داخلياً وخلق حالة من الرفض الشعبي ضده.
ثالثاً: مستقبل العلاقة بين سوريا والكيان الاسرائيلي:
هنالك ثلاث مشاهد لتصور العلاقات بين الطرفين وفقاً لما طرحناه.
المشهد الأول: التوصل إلى اتفاق استراتيجي بين الجانبين:
يرتكز هذا المشهد نجاح المفاوضات وفقاً للوساطة الإماراتية في تقريب وجهات النظر بين سوريا والكيان الاسرائيلي، مما قد يفضي إلى اتفاق شامل وخاصة في المجال الأمني، ملامح هذا الاتفاق تقوم على عدة عناصر، منها منع التهديدات المتبادلة، وحماية الطائفة الدرزية داخل سوريا، ومنع أي وجود عسكري تركي واسع أو نشاط فصائلي معادي للكيان الاسرائيلي، في المقابل، يلتزم الكيان الاسرائيلي بوقف الغارات الجوية داخل سوريا والانسحاب من الأراضي التي سيطرت عليها بعد انهيار نظام بشار الأسد، مع ضمان حقها في منع أي تهديد أمني مستقبلي من الجنوب السوري، بالإضافة إلى بناء منظومة تنسيق أمني مشترك مع دمشق.
هذا المشهد يقوم على مصلحة الطرفين في تحقيق الاستقرار وضمان الأمن دون الدخول في تسويات سياسية شاملة في هذه المرحلة، فالنظام السوري يحصل على تهدئة إسرائيلية تدعم استقراره الداخلي، بينما يضمن الكيان الاسرائيلي تأمين جبهته الشمالية وتقليل التهديدات الأمنية على حدوده.
مع ذلك، تواجه هذه الرؤية تحديات جوهرية، أبرزها احتمال رفض تركيا لأي اتفاق يستثنيها من المعادلة الأمنية في سوريا، إلى جانب رفض داخلي في دمشق قد يعتبر الاتفاق تفريطاً بالسيادة، وكذلك تحفظات إسرائيلية من تسليم جانب من أمنها إلى نظام تعتبره غير موثوق، خاصة بعد تجربة 7 أكتوبر.
المشهد الثاني: فشل المفاوضات وعدم التوصل الى أي اتفاق:
يرجح هذا المشهد انهيار المفاوضات بين الجانبين بسبب تباين المواقف والفجوة الكبيرة في المطالب، فسوريا تطالب بوقف كامل للهجمات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، بينما يرفض الكيان الاسرائيلي إعطاء مثل هذا التعهد أو حتى الحديث عن انسحاب تدريجي من المناطق التي سيطرت عليها مؤخراً، في المقابل، لا تبدي سوريا استعداداً لمنع تركيا من توسيع نفوذها العسكري أو لتقديم ضمانات ترضي الكيان الاسرائيلي بهذا الشأن، إذ قد ترى في العلاقة مع تركيا أولوية استراتيجية لا يمكن التفريط بها.
ورغم أن فشل المفاوضات قد يبدو منطقياً في ظل هذه التباينات، فإن هناك ما يدفع الطرفين نحو الاستمرار، خصوصاً رغبة النظام السوري في إنهاء الاعتداءات الإسرائيلية وتحسين صورته دولياً، ومصلحة الكيان الاسرائيلي في تقليل تدخلاته المباشرة داخل سوريا بعد التغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي والدولي، والتي قد تقيد حريتها في استخدام القوة مستقبلاً.
المشهد الثالث: التوصل إلى اتفاق محدود ومؤقت:
يرجح هذا المشهد أن تثمر المفاوضات عن تفاهمات محدودة او اتفاق محدود ومؤقت يركز على القضايا الأمنية الملحة، مثل منع تنفيذ عمليات ضد الكيان الاسرائيلي انطلاقاً من الأراضي السورية، مقابل التزام إسرائيلي بوقف القصف والتوغل، وقد تشمل هذه التفاهمات آلية تعاون استخباراتي يتبادل فيها الطرفان المعلومات حول التهديدات، على أن يتكفل النظام السوري بإحباط أي تحركات تعتبر تهديداً للأمن الإسرائيلي.
ينطلق هذا التصور من أن الطرفين يفضلان التقدم في المسائل القابلة للحل دون الخوض في الملفات الشائكة، مثل النفوذ التركي في سوريا أو مستقبل العلاقات الإقليمية للنظام السوري، كما يمنح هذا المشهد كلا الجانبين مساحة للمناورة الداخلية، فهو لا يحرج النظام السوري أمام أنصاره ولا يُلزم الكيان الاسرائيلي بتنازلات استراتيجية كبيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها.
في النهاية، يمكن القول: ان الوصول إلى اتفاق شامل بين الطرفين يعد أمراً صعب المنال في ظل التعقيدات الراهنة، لكن التفاهمات البينية والتقارب الحذر يبقى هو الخيار الأقرب للتحقق، باعتباره يحقق الحد الأدنى من مصالح الطرفين، ويفتح الباب لاحقاً أمام تسويات أوسع إذا ما تهيأت الظروف السياسية والإقليمية لذلك، وهذا له انعكاسات واسعة اقليمياً وعربياً.
اضافةتعليق