أنهار بلا قوانين

شارك الموضوع :

يبدو أن اعتماد إسلام آباد على المسارات القانونية رغم مبادئه، يُقلّل من شأن المشهد الجيوسياسي المتغير، حيث غالبا ما يكون القانون خاضعا للسلطة...

بقلم الدكتور: خُرم عباس- محلل شؤون جنوب آسيا


معاهدة مياه نهر السند، التي أُشيد بها سابقا كنموذج نادر للتعاون الثنائي بين جارتين نوويتين، تجد نفسها الآن تحت وطأة الحصار، إعلان الهند الأخير بتعليق معاهدة المياه الدولية ليس مجرد مناورة دبلوماسية، بل هي محاولة جريئة لإعادة صياغة سياسات المياه الإقليمية دون إدراك أن عواقبها فورية وتداعياتها بعيدة المدى على كلا الجانبين.

في هذا العالم الماكيافيلي، ينبع قرار نيودلهي في المقام الأول من الانتهازية الجيوسياسية أكثر من المنطق القانوني:

أولا: على الصعيد الدولي، يعكس هذا القرار ثقة نيودلهي المتزايدة في نظام دولي تتزايد فيه مرونة القواعد وضعف آليات التنفيذ، لقد جعل الغزو الروسي لأوكرانيا وجرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين، مع ضعف المساءلة الدولية، الدول واثقة من غياب المساءلة القانونية، في هذه البيئة المتساهلة، لا ترى الهند أي خطر يذكر في تقويض معاهدة عمرها عقود.

ثانيا: يتشتت التركيز الاستراتيجي العالمي، إذ لا يزال الغرب منشغلا بقائمة أزمات متوسعة، إعادة تقييم أمن الاتحاد الأوروبي، وحروب ترامب الجمركية، وآفاق السلام الهشة بين أوكرانيا وروسيا، والصراع المطول في غزة، وسط هذا الضجيج تعاظم الدور الاستراتيجي للهند- كحصن إقليمي في وجه الصين.

بالنسبة للعواصم الغربية، تُعدّ نيودلهي أكثر من مجرد لاعب إقليمي، إنها ركيزة استراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، هذا التعزيز يشجع الهند، واثقة من أن انتهاكاتها للمعاهدات ستُعتبر احتكاكات ثنائية، وليست تصرفات شريك عالمي غير موثوق.

ثالثا: عززت السابقة السياسية المحلية موقف نيودلهي، بوجه إلغاء المادتين 370 و35-أ عام 2019، واللتين جرّدتا كشمير المحتلة من وضعها الخاص، ردود فعل دبلوماسية سلبية، لكن دون أي انتكاسة استراتيجية فعالة، إن عجز إسلام آباد عن عكس خطوة نيودلهي بعث بإشارة واضحة إلى صانعي السياسات الهنود، الا وهي أن المخاطر الاستراتيجية، عندما تُحسن توقيتها وتدعمها لامبالاة عالمية، غالبا ما تحقق مكاسب صافية، ويستند هذا المنطق نفسه الآن إلى مناورة الهند في حرب المحيط الهادئ مطمئنة إلى أن باكستان تفتقر إلى النفوذ الدبلوماسي اللازم لتحقيق عواقب وخيمة.

رابعا: كان من بين أسباب إحباط نيودلهي استخدام إسلام آباد الفعال لإطار فض النزاعات التابع لاتفاقية المياه الدولية للطعن في مشاريع السدود الهندية المثيرة للجدل، استندت اعتراضات باكستان إلى تفسيرات تقنية وقانونية دقيقة للمعاهدة.

وللأسف، اعتبرت نيودلهي هذه الاعتراضات تكتيكا متعمدا من إسلام آباد لتأخير تلك المشاريع، أدى هذا الإحباط إلى مطالبة الهند بالسعي إلى تعديلات في إطار المعاهدة، في هذا السياق، يبدو أن الخطوة الأحادية الجانب من طرف الهند لتعليق المعاهدة لا تتعلق بالأساس القانوني بقدر ما تتعلق بالإكراه السياسي وهي حيلة مدروسة لإجبار إسلام آباد على العودة إلى طاولة المفاوضات تحت الضغط.

تغيرت قواعد الاشتباك، ولم يعد بإمكان باكستان أن تساير القواعد القديمة، يعد تعليق الهند الأحادي لاتفاقية التجارة الحرة اختبارا محسوبا لثبات باكستان الاستراتيجي، يبدو أن اعتماد إسلام آباد على المسارات القانونية رغم مبادئه، يُقلّل من شأن المشهد الجيوسياسي المتغير، حيث غالبا ما يكون القانون خاضعا للسلطة.

إنّ النهج الباكستاني الحالي، القائل بأن النظام الدولي المُمزّق -الذي فشل في تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن كشمير لأكثر من سبعة عقود- سيجبر الهند على تغيير مسارها، هو في أحسن الأحوال نهج مُفرط في التفاؤل، كما يجب على باكستان أن تُدرك أن دور المجتمع الدولي سيقتصر على الأرجح على خفض التصعيد، وتدعو إلى مفاوضات ثنائية، لقد ولّى عصر الإنفاذ الخارجي، وأصبح الاعتماد الاستراتيجي على الذات أمرا حتميا.

من أجل شنّ استجابة فعّالة، يجب على إسلام آباد أن تتحوّل من النزعة القانونية الانفعالية إلى إطار سياسي استراتيجي شامل:

أولا: عليها إعادة النظر في التنازلات التي قدّمتها بموجب المادة الثانية من المعاهدة، والسعي رسميا إلى مراجعة تنازلها عن حقوقها في الأنهار الشرقية الثلاثة، لا سيما في ضوء انتهاك الهند للاتفاقية.

ثانيا: على إسلام آباد أن تغلق فورا القنوات الهندية الأربع المعروفة التي تطلق مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى الأراضي الباكستانية.

ثالثا: الأهم من ذلك، على باكستان أن تتعلم متى تقول كلا سواءً تحت ضغط دبلوماسي من العواصم العالمية أو إكراه استراتيجي من نيودلهي، يجب على باكستان أن ترفض رفضا قاطعا الدخول في أي إعادة تفاوض على المعاهدة ما لم تتراجع الهند أولا عن تعليقها الأحادي.

إذا أدى رفض الهند مشاركة بيانات تدفق المياه إلى خسائر في الأرواح أو الممتلكات، فيجب على باكستان ضمان ألا يبقى عدم تعاون نيودلهي دون رد، يجب على إسلام آباد أن تُدرك أن وراء اللغة التكنوقراطية والغموض القانوني رسالة واضحة مفادها أن: المعاهدات أصبحت الآن أدوات ملاءمة، وليست التزامات مبدئية.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل