العراق.. محاولات من وسط الأزمة (الإسرائيلية- الإيرانية) لتكريس سلطة الدولة

شارك الموضوع :

الكاتب: روبرت أس. فورد- باحث في معهد الشرق الأوسط (MEI)

مرّت مدة طويلة على الحكومة العراقية، وهي تحاول موازنة الخطى في علاقاتها السياسية مع جارتها إيران، وحلفائها المحليين من جهة، وعلاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة من جهة أخرى، وعليه فلم يكن مفاجئا ترحيبها السريع على لسان خارجيتها باتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثالث والعشرين من شهر حزيران بين إسرائيل وإيران، ووصْفُ الاتفاق بكونه خطوة إيجابية باتجاه خفض التصعيد وتعزيز الاستقرار، وعلى الرغم من أن بيان وزارة الخارجية العراقية كان يشير إلى التهدئة الإقليمية والاستقرار لكننا يمكن أن نفهم منه ضمنا تطبيقه على الساحة العراقية نفسها من حيث محاولة حكومة بغداد كبت الفصائل المسلحة، والسعي لاستيعاب التحديات الاقتصادية الناجمة عن حرب إسرائيل وإيران، وكذا النزاع المزمن مع حكومة إقليم كردستان في أربيل.

 

شجب موحّد للهجمات الإسرائيلية

مع الضربات الأولى ضد إيران أدانت الحكومة العراقية الموقف الإسرائيلي عادةً الهجوم "انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وعملا عدوانيًا"، جاء ذلك الإعلان عقب لقاء عاجل لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني مع كل من القائم بأعمال السفارة الأمريكية، والجنرال الأمريكي المسؤول عن قيادة قوات التحالف الدولي في العراق، وترافقت مع إعلان الحكومة مجموعة متنوعة من البيانات المستنكرة للهجوم الإسرائيلي من لدن ساسة، وشخصيات دينية شيعية كان أبرزها بيان عاجل من مكتب المرجع السيد السيستاني الذي وصف الهجوم الإسرائيلي بأنه جريمة، مرددا دعوة رئيس الوزراء السوداني للمجتمع الدولي بالتدخل لوقف الضربات الإسرائيلية على إيران، بل حتى رئيس إقليم كردستان أدان الهجمات، واصفًا إياها بتهديد للاستقرار الإقليمي، وداعيًا المجتمع الدولي إلى التحرك من أجل وقف التصعيد.

مع أن الانتقادات كانت حادّة ضد إسرائيل، لكن كلًا من حكومتي بغداد وأربيل أكدتا على أنهما لا ترغبان في أن يُجرّ العراق إلى أتون الحرب داعيتين إلى تهدئة المواجهة، مع التأكيد على ضرورة عدم استخدام الأراضي أو الأجواء العراقية في العمليات العسكرية بين الطرفين، وقد أبدت السلطات الكردية من جانبها قلقاً خاصاً حيال احتمال شنّ هجمات إيرانية واسعة النطاق على القوات الأميركية المتمركزة في قاعدة حرير الجوية، التي تبعد نحو عشرين ميلاً شمال شرق أربيل، وعمدت إلى نشر تعزيزات من قوات البيشمركة لحمايتها.

لقد كانت القضية الحساسة بشكل خاص لبغداد خلال المواجهة بين إسرائيل وإيران هي الانتهاكات المستمرة للأجواء العراقية من كلا الطرفين، على أن أغلب انتقاداتها كانت موجهة ضد إسرائيل، فقد أدان السياسيون العراقيون، بما في ذلك رئيس الوزراء وأعضاء البرلمان، وقادة الفصائل، والمجتمع المدني أدانوا بغضب الطيران الإسرائيلي، وقدمت وزارة الخارجية العراقية شكوى رسمية عاجلة في الثالث عشر من حزيران إلى مجلس الأمن الدولي ضد استخدام الطائرات الإسرائيلية والصواريخ لأجواء البلاد، وذكرت تقارير عراقية أن السوداني أيضًا أثار الانتهاكات في اجتماعاته مع الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين في اليوم التالي من صدور الشكوى.

كما أعلن المتحدث بأسم القوات المسلحة العراقية أن الاتفاقية الثنائية للإطار الاستراتيجي (SFA) بين واشنطن وبغداد تلزم الولايات المتحدة بمنع الانتهاكات الإسرائيلية للأجواء العراقية، ووفقًا لما نقلته وكالة شفق نيوز فقد شدد نائب وزير الخارجية حسين بحر العلوم في الحادي والعشرين من حزيران أمام الدبلوماسي الأمريكي الكبير في بغداد، على أن الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة "لا تقوض السيادة العراقية فحسب، بل تهدد أيضًا سلامة الطيران المدني"، وأكّد أن تحليق الطيران الإسرائيلي فوق مدن جنوب العراق يمثل إهانة لسيادة العراق كما يشكل خطرا على مطار البصرة الدولي، وهو المطار الوحيد الذي ظل يعمل طيلة تفجر الصراع بين إسرائيل وإيران.

هذا الموقف العراقي لم يكن وليدا لسياسة عراقية خالصة فقد ضغط الإيرانيون أيضًا بشكل ملحوظ على بغداد لمحاولة وقف تحليق الطيران الإسرائيلي فوق العراق، فقد جاءت هذه الدعوة على لسان الرئيس الإيراني مسعود پزشكيان نفسه في السادس عشر من شهر حزيران، إلى ذلك لم يكن مفاجئاً أن المسؤولين العراقيين لم يُدلوا بأي تصريح بشأن الانتهاكات المتكررة للأجواء العراقية من لدن إيران خلال ضرباتها الانتقامية المضادة، فبغداد تخشى من ردود فعل إيرانية من شأنها تعريض جهود العراق للنأي بنفسه عن الصراع للخطر، ومن ثم تقويض الأمن الداخلي للبلاد.

وإدراكًا منها لهشاشتها الأمنية الخطيرة، فقد شرعت بغداد بشراء منظومات دفاع جوي من كوريا الجنوبية، لكن هذه المنظومات لم تبدأ بالوصول قبل عدة أشهر، بحسب ما صرّح به وزير الدفاع العراقي لوسائل الإعلام في التاسع عشر من حزيران، ولكن في هذه الآونة تدرس الحكومة الاتحادية كيفية الاستفادة الفعّالة من اتفاق الإطار الاستراتيجي (SFA) بين العراق وأمريكا بغية إيقاف استخدام إسرائيل للأجواء العراقية.

 

إيران والفصائل الحليفة: دقة في حساب الخطوات

رغم التوترات بشأن إسرائيل وضرباتها لإيران، لا تريد كل من بغداد وأربيل أن تتضرر علاقاتهما مع الولايات المتحدة بسبب هذه الأزمة، فقد ضغطت الحكومة العراقية بهدوء ولكن بحزم على الفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل العراق باتجاه عدم إطلاق صواريخ على إسرائيل، وبحسب صحيفة المدى الصادرة في الثاني والعشرين من حزيران، منعت القوات الأمنية العراقية المحتجين من الاقتراب من السفارة الأمريكية، وفور الانسحاب الأولي للموظفين غير الأساسيين من البعثة الدبلوماسية، أرسلت الحكومة العراقية تحذيرًا صارمًا للفصائل بعدم استهداف الأمريكيين، ومن اللافت أن السوداني حين تحدث في الثالث والعشرين من حزيران مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الأزمة لم يعلن عن أي اتصالات مماثلة مع مسؤولين رفيعي المستوى في واشنطن؛ بل اكتفى بالتواصل مع موظفين عاديين في السفارة الأمريكية.

إن حكومة بغداد لا تخفي رغبتها في الحصول على دعم أمريكي مستمر لقواتها الأمنية، لاسيما بعد سقوط حكومة بشار الأسد في سوريا وعودة المتطرفين هناك، كما توجد رغبة لأحزاب الشيعة الذين يشكلون العمود الفقري لحكومة السوداني بالحفاظ على العلاقة الأمنية مع واشنطن، لكنهم في الوقت نفسه يريدون تجنب أي تحرك أمريكي لتدمير الفصائل المدعومة إيرانيا بالقوة، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا تتمثل في أن الفصائل تستمع لدعوات الإسلاميين الشيعة الخاصة بضبط النفس، فعلى الرغم من تحذيرات سابقة لها بخصوص الرد على الولايات المتحدة وإسرائيل إذا هاجمتا إيران، فقد اقتصرت استجابات ما تسمى بـ"المقاومة العراقية"، اقتصرت على الإدانات اللفظية لهجمات إسرائيل، ولم تدن هذه الفصائل -على نحو لافت- الهجوم الأمريكي في الحادي والعشرين من حزيران، وكما أفادت الصحيفة المذكورة آنفا فإن عضو المكتب السياسي لعصائب أهل الحق فريد الجزائري قال في مقابلة تلفزيونية: "إن المعركة هي "حرب تكنولوجيا" نافيا حاجة إيران لدعم عسكري من المقاومة العراقية، في حين قال مهدي الكعبي وهو تابع لحركة النجباء في مقابلة تلفزيونية أخرى: "إن التدخل في القتال يستلزم حسابات دقيقة لا عواطف، مضيفا أن الدفاع عن إيران واجب شرعي، لكن هناك مصالح عراقية كبيرة يجب حمايتها، ومشيرًا إلى أن إيران هي من ستقرر ما إذا كانت ستضرب أهدافًا أمريكية في العراق والأردن والخليج، وأن الولايات المتحدة من جهتها ممثلة بالكونغرس تتوجس من وجود أربعين ألف رهينة أمريكي -أي الجنود المتمركزين في الشرق الأوسط- تحت رحمة الصواريخ الإيرانية"، من جهته قال إحسان الشمري أستاذ العلاقات الدولية والاستراتيجية بجامعة بغداد لصحيفة المدى: "إن الفصائل تدرك أن مهاجمة الأمريكيين سيكون انتحارًا، وقد يؤدي إلى ضربات أمريكية انتقامية واسعة على إيران، وأن حساباتهم قد تتغير إذا هددت الضربات بقاء النظام الإيراني أو إذا تعرضت الفصائل نفسها لهجمات مباشرة، مضيفا بالقول حتى الآن لا توجد إشارات من طهران تطالب الفصائل العراقية بإطلاق النار على أمريكيين أو إسرائيليين.

 

الشأن النفطي العراقي

يُعد قطاع النفط العراقي سببًا آخر لرغبة بغداد وأربيل في إنهاء الأزمة، فصادرات النفط تمثل تقريبًا كل عائدات العراق من التصدير، وأكثر من 80% من إيرادات الدولة، وقد تؤدي الإجراءات الإيرانية لتعطيل حركة ناقلات النفط عبر مضيق هرمز لفترة طويلة إلى تهديد مباشر لاقتصاد العراق، علاوة على هذا فبعد بدء إسرائيل بضرب أهداف إيرانية، قامت شركات طاقة كبرى مثل بي بي، وإيني، وتوتال، بإجلاء معظم موظفيها الأجانب العاملين في حقول النفط الجنوبية في العراق، وهي الأكبر في البلاد، كما أن شركة نفط البصرة الحكومية أصدرت بيانًا في الثالث والعشرين من حزيران قالت فيه: "إن مستويات الإنتاج لم تتأثر، وإن العديد من الموظفين الأجانب يواصلون العمل مع الملاكات العراقية عن بُعد، وثمة شركات صينية، وروسية أيضًا تعمل في هذه الحقول، ولم يؤثر القتال على رعاياها"، ومع هذا فقد أدّى إغلاق الحكومة لمعظم الأجواء العراقية في المدة (13-26) من حزيران إلى تقطع السبل بالمسافرين العراقيين والأجانب، كما أدى إلى خسارة الحكومة لعائدات عبور الطائرات في الأجواء العراقية، وعليه فقد تضافرت أسباب اقتصادية قوية لبغداد لكي تدعم تهدئة سريعة للقتال.

 

نظرة إلى المستقبل

إن الأزمة الحالية نشأت في وقت كانت الحكومة الاتحادية في العراق تواجه مشاكل داخلية ملحة؛ إذ عاد الجمود ليطغى على علاقات بغداد- أربيل بخصوص صادرات النفط، وإيراداتها في شهر شباط الماضي، وقد كان السبب الرئيسي وراء تلك العودة هو قرار بغداد وقف تحويل الأموال المخصصة لدفع رواتب موظفي حكومة الإقليم، ومن المألوف أن تُحال هذه القضايا إلى المحكمة الاتحادية العليا، لكن المحكمة الآن في حالة من الفوضى بعد استقالة تسعة من قضاتها احتجاجًا على تدخلات سياسية في عملها، ومن المفترض كذلك أن تصادق المحكمة العليا أيضًا على نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة التي ستجري في شهر تشرين الثاني من هذا العام، وهذه الانتخابات هي التي يُفترض أن تُشكل حكومة جديدة على أساسها، لذلك فسوف يكون القادة العراقيون منشغلين بمشكلاتهم الداخلية في الوقت الذي يراقبون فيه التطورات في ملف إيران وإسرائيل، ومع غياب اتفاق بين إسرائيل والولايات المتحدة وإيران بخصوص ما تبقى من البرنامج النووي الإيراني، فمن المرجح استمرار القتال مع بقاء نبرة العراق حادّة تجاه اعتداءات إسرائيل التي كثيرًا ما تشير الحكومة العراقية لها بعبارة (الكيان الصهيوني)، وقد أعاد رئيس الوزراء السوداني تأكيد موقف العراق الرافض لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في مقابلة مع سكاي نيوز في الخامس عشر من حزيران.

وفضلا عن صدور قانون عراقي عام 2022 يحظر أي اتصال بين مواطني العراق وإسرائيل، ما يزال ساسة عراقيون يتهمون السلطات بغض الطرف عن تصدير النفط من كردستان العراق إلى إسرائيل عبر تركيا؛ لذلك فحتى لو استقرت عملية وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، فمن غير المرجّح أن ينضمّ العراق إلى أي تحركات عربية وشيكة باتجاه تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل