إيران.. تغيير السلوك هو البديل عن تغيير النظام

شارك الموضوع :

غالبًا ما أدّى تغيير الأنظمة الذي قادته جهات أجنبية في منطقة الشرق الأوسط الكبرى إلى نتائج سيئة، ففي أفغانستان عام 2001، أدى إسقاط نظام طالبان إلى إنهاء الحكم لكنه أطلق العنان لعقدين متوالين من حرب العصابات، وانهيار الدولة، وأزمة إنسانية...

بقلم الباحث: جوناثان إم. وينر- معهد الشرق الأوسط (MEI)

وفي العراق عام 2003، أدّى إسقاط نظام صدام إلى تدمير الدولة وتهيئة الظروف إلى ازدهار تنظيم القاعدة وداعش، أمّا ليبيا عام 2011، فقد سلكت مسارًا مشابهًا حينما أطاح حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمعمر القذافي، ليخلّف بلدًا ممزقًا تتناهبه الميليشيات والجهاديون، وقاد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982البلاد إلى مستنقع دموي دام حوالي عقدين كاملين.

الأمثلة السابقة تشير إلى أن ضرب دولة ما بهدف تغيير نظامها يكون أسهل من تحقيق الاستقرار في ما بعد، هذا ليس دفاعا عن الحكومات الاستبدادية، بل هو تحذير مفاده أن تغيير النظام بنجاح يتطلب تخطيطًا، ودعمًا متعدد الأطراف، ويتطلب كذلك شعبًا داخل الدولة المستهدفة مستعدًا لاحتضان التغيير، وانتباهًا مستمرا لما سيحدث لاحقًا، فمن دون خطة سياسية قابلة للتنفيذ تساند العمل العسكري سيكون المصير فراغا في السلطة، وعنفا، وعواقب ضارة.

وبقدر ما يتعلق الأمر بإيران فإنها تمثل اليوم لحظة نادرة لتزامن الخطر مع الفرصة؛ إذ إن تقدمها في المجال النووي وأنشطتها عبر الوكلاء تشكل تهديدات حقيقية لاستقرار المنطقة، ومع ذلك، فإن احتمال استمرار الضربات الإسرائيلية وربما الأمريكية ضد منشآت إيران، والتهديدات الصريحة ضد قادتها يثير شبح تحول الهدف من مواجهة القدرة النووية إلى محاولة إسقاط حكم الدولة، على أن تحقيق هذا الهدف ربما سيكون أصعب مما يروّج له مؤيدوه، فإسقاط الحكومة الإيرانية من دون تدخل عسكري واسع النطاق أو إحداث انهيار داخلي فيها ليس هدفًا واقعيًا في المدى القريب، فعلى مدى عقود، أثبت النظام الديني الإيراني مرونة مدهشة مستمدًا قوته من مؤسساته الأمنية، وشبكاته السياسية، وقدرته الطويلة على قمع المعارضة.

نعم، قد تزعزع الضغوط الخارجية استقراره، لكنها أبعد ما تكون عن الإطاحة به، وحتى إذا انهار النظام مثلما حدث مع نظام بشار الأسد في سوريا عام 2024، فمن المرجح أن يكون ذلك نتيجة لتشظي داخلي، لا لتدخل خارجي، وسيرافق ذلك كما رأينا في أماكن أخرى حرب أهلية وقمع داخلي، وربما صعود قوى أكثر تطرفًا من هؤلاء الموجودين حاليًا في السلطة.

ولكن بصرف النظر عن استمرار الهجمات من قبل إسرائيل أو بحلف مشترك مع أمريكا وغيرها فإن الحكومة الإيرانية تواجه ضغوطًا هائلة، فالشعب كان ساخطًا حتى قبل تلك الهجمات، والاقتصاد الإيراني يمر في أزمة، فضلا عن عزلة إيران المستمرة.

إن هذه اللحظة ليست لحظة انهيار، بل فرصة لتجديد المسار الدبلوماسي، بمعنى أن هناك إمكانية لتغيير سلوك النظام، لا النظام ذاته، وبطريقة تتجنب كارثة الفوضى، لذلك فبدلًا من التركيز على القدرات النووية لإيران فحسب ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها إطلاق مبادرة دبلوماسية شاملة تعالج كل المشكلات المتراكمة بين إيران وجيرانها والغرب.

وابتداء يجب تشكيل إطار للتفاوض يمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، ويقدم في الوقت نفسه ضمانات موثوقة بأن أمريكا أو إسرائيل لن تسعيا لتغيير النظام، ومع أن تحقيق مثل هذا الاتفاق مزدوج المسار سيكون صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا، بالنظر للوضع الضعيف الذي تعيشه إيران، وإمكانية أن تقتنع إسرائيل بأن هذا الاتفاق هو الخيار الأفضل لوقف البرنامج النووي الإيراني على المدى الطويل، وسيتطلب ذلك فرض قيود صارمة على تخصيب إيران لليورانيوم، وتصميم نظام تفتيش موثوق، وفي المقابل ستحصل إيران على تخفيف تدريجي للعقوبات وتطبيع للعلاقات التجارية.

لكن لكي يكون الاتفاق مستداما فعلا يجب أن يسير خطوة أبعد من ذلك تتضمن التزامًا من إيران بتقليص دعمها لحلفائها كحزب الله، وحماس، والحوثيين، ونظرائها في العراق وسوريا، مع تشجيع تدريجي لخفض التصعيد في المنطقة اعتمادا على آليات حل النزاعات، وما يرافقها من برامج التحقق والإنفاذ، ومن الضروري هنا القول بأن الاتفاق يجب أن لا يكون ثنائيًا أي بين الولايات المتحدة وإيران، بل يجب إشراك أطراف إقليمية ودولية أخرى بما في ذلك السعودية، والإمارات، وقطر، والعراق، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، ودعوتها للمشاركة في صياغته، وضمانه، ودعمه.

هذه المقاربة لا تتطلب التأييد الأخلاقي لأي سياسة داخلية أو خارجية تخص أي حكومة تتجاوز ذلك الإطار، وإنما تعترف ببساطة بمصلحة مشتركة في تجنب انهيار إيران عسكريا، ومن ثم انتشار العنف المتطرف، وذلك عبر عمليات ترميم لقنوات دبلوماسية قديمة، وإنشاء لأخرى جديدة تستند على الواقعية وضبط النفس، وليس على التفكير السحري أو الإكراه، ولكي تنجح هذه الدبلوماسية يجب أن تكون عوائد إيران ملموسة وموثوقة، ونقطة البداية ستكون مع تخفيف تدريجي للعقوبات، لكن ذلك لن يكون كافيا؛ إذ لا بد أن يقدم الاتفاق مسارًا نحو تطبيع اقتصادي يأخذ بنظر الاعتبار ردّ الأصول المجمدة، واستئناف صادرات النفط، وإعادة دمج إيران في النظام المالي العالمي، وكل ذلك يجب أن يكون مشروطًا بالامتثال القابل للتحقق، لا بالثقة وحدها.

والأمر نفسه ينطبق على الضمانات الأمنية، فمن الواجب أن تُخبر إيران بأن التزامها بشروط الاتفاق سيكون حائلا حقيقيا يمنع أي سعي لإسقاط نظامها، ومع ذلك فلا مانع من الاستمرار بانتقاد سجلها الخاص بحقوق الإنسان أو سلوكها مع جيرانها، فهذا الشيء مختلف إلى حد كبير عن وضع النظام في دائرة الأهداف الاستراتيجية، ويجب أن تركز الدبلوماسية نظرها أيضًا على الدوافع النفسية لسلوك إيران، هذه الدوافع التي ألجأتها منذ مدة طويلة إلى الاعتماد على الجماعات الموالية لها في الخارج كحزب الله، وحماس، والحوثيين...الخ.

إن من شأن وجود إطار عمل دبلوماسي جديد أن يعيد الشرعية الدولية لإيران، ويقلل من حدة الإحساس بالتهديد، إطار كهذا قد لا يحدث نقلة نوعية في صلب النظام، لكنه يمنحه سببًا للتفاعل أو التعاون وتفادي الصراع الذي استمر لعقود، أما البديل في حال ما إذا فشلت المفاوضات فهو استمرار العزلة الإيرانية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، ووجود خطر إسرائيلي أو أمريكي ضد مواقع عسكرية إيرانية، أو بنى تحتية مدنية كشبكات الكهرباء، التي لم تستهدفها إسرائيل حتى الآن، وهو ما يلفت الانتباه!.

إن التوصل إلى اتفاق دبلوماسي يخفف هذه الضغوط مقابل قيود قابلة للتحقق على برنامج إيران النووي والصاروخي، والحد من نشاطات وكلائها في المنطقة لن يكون تنازلًا، بل صفقة استراتيجية تفيد كلا الطرفين، لقد كانت الأسابيع التي سبقت الضربة الأخيرة لإيران بداية لتحرك هذه الدبلوماسية، وكان القادة الأوروبيون، لاسيما فرنسا وألمانيا وبريطانيا يعملون بنشاط لعقد محادثات تهدف إلى الحد من برنامج إيران النووي، وتطويرها لسلاحها الصاروخي، وزيادة أنشطتها الإقليمية عبر الوكلاء.

وقد اقترح الرئيس إيمانويل ماكرون إطارًا شاملاً يجمع بين تخفيف العقوبات على مراحل واستعمال آليات تحقق صارمة، وقبل الضربة كانت هناك قنوات موازية بوساطة قطر وعُمان تسهل الاتصالات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وبعد الضربة عبّرت دول الخليج بما في ذلك السعودية والإمارات، عن دعم حذر لإعادة إطلاق المسار الدبلوماسي، وعلى الرغم من هشاشة هذه الجهود فإنها شكّلت هيكلًا تفاوضيًا عمليا، وقد عطّلت الغارات الجوية هذا الهيكل، لكنها لم تدمره تماما، ويحاول القادة الأوروبيون حاليا إحياؤه، وفي حال بقاء تجنب الانهيار، والفوضى، والتصعيد في إيران هدفا فلا بد من إحياء هذه المسارات متعددة الأطراف على وجه السرعة، وتعزيزها بجداول زمنية واقعية، وضمانات إقليمية، ومعايير واضحة للامتثال، وعدمه، وطرق الرد.

إن إطارا دبلوماسيا مصمما جيدًا يمكن أن يفيد جميع الأطراف، وبخصوص إيران فإنه سيوفر مسارًا نحو الاستقرار الاقتصادي والشرعية الدولية، وبقدر ما يتعلق الأمر بالمنطقة فإنه سيقلل من حروب الوكالة، وهجمات الصواريخ، والاستقطاب الطائفي، أما بخصوص أمريكا وأوروبا، فإنه سيضع بين أيديهم وسيلة لإدارة التحدي الإيراني من دون حرب، ومن دون ظهور أطراف أكثر تطرفًا تعقب انهيار النظام.

إن مثل هذه الدبلوماسية لن تعيق التغيير الداخلي في إيران، بل على العكس هو الصحيح؛ لأنها ستفقد النظام الذرائع التي يسوقها لتبرير القمع وعسكرة الدولة، هذه الذرائع المؤسسة على وجود تهديدات خارجية تستهدف الدولة، وبمرور الوقت يمكن لهذه الدبلوماسية أن تخلق مساحة للإيرانيين تساعدهم في بناء مستقبلهم السياسي بأنفسهم.

إن المسار الحالي غير قابل للاستمرار، ويستدعي التغيير صوب مبادرة إطار دبلوماسي جديد متعدد الأطراف، ويتصف بالشمول، والواقعية، وتقليل المخاطر، ويعيد تشكيل السلوك بما يتجنب منطقة الشرق الأوسط من كارثة جديدة.

وأخيرا فإن مبادرة كهذه يمكن أن تنجح، ويمكن أن تفشل، ولكن من دون الأخذ بها ينبغي لواشنطن أن تفكر في احتمال يقضي بإرغامها على قبول قرارات تُتخذ خارجها.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل